قد أكون مخيبًا لظن بعضكم ولكن تلك الكلمات كانت تجول في خاطري. "من له الشرعية" وقد ترددت كثيراً في كتابتها حتى شرعت في قراءة كتاب "كيف ندعو الناس" لمحمد قطب واستعنت بالله فلا مجال لتهميش قضية "من له الشرعية".
هل سألتَ الناس على أي شريعة تحبوا ان تحاكموا؟ إن تحويل الصراعات بين الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية والليبرالية والإشتراكية هو قمة العبث وأرى أنها مسرحية هزلية وصراع على الحياة الدنيا وليس لمرضاة الله تعالى. كيف أدعو الناس لاختيار الحكم بما أنزل الله وقد وجبت عليهم الصلاة والصيام والزكاة حينما قالوا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبد الله ورسوله؟
لقد قُتل بحثًا وعلمًا وإثباتًا أن الحكمَ بما أنزل الله واجب على كل مسلم موحد شهد بلسانه الشهاداتين وأن من مقتضايات لا إله إلا الله أن الشارع المُشرع هو الله. وأشعر بخيبة عقل عندما يحصر من يريد فصل الدين عن الحياة (وليس فقط السياسة) في الحدود. بغض النظر عن ما قيل في محاسن تطبيق الشريعة الإسلامية من أكبر العلماء والشيوخ والمفكريين إلا أنني أُفضِّل قبل تعداد محاسنها أن يقول كل مسلم أنها ملزمه من الله وبعدها قل ما شئت. لن يفيدني كثيرًا قول الأطباء أن الصلاة خمس مرات يوميًا تساعدني وأنا مهندس كمبيوتر بعدم الإصابة بآلام الظهر!! يمكنني أن أستغنى بالحركات الرياضية عن الصلاة وأحمي ظهري... أنا أُصلي لأني أُمِرت بهذا وعليه وجود الفوائد الدنيوية أو انعدامها لن يكون سببًا يمنعني أو يجعلني أصلي. أنا أُصلي لأني شهدت لله بالوحدانيه وشهدت أنه من خلقني وما علي تجاهه شيء غير عبادته وتقديم كل صور الطاعة. في المثال السابق بدّل الصلاة بتطبيق الشريعة.
إن تطبيق الشريعة قد لا يحل كل المشاكل القائمة في الحياة اليومية ويجب تنبيه الناس بذلك، لم يأتي الرسول بدعوة الإسلام وقدّم الوعود لأصحابه أنهم لو آمنوا سوف يتمتعون كل المتعة في الحياة الدنيا ولكن ضمن لهم الجنة إن لم يشركوا في عبادتهم لله أحدا. إن تطبيق الشريعة سبيل لخلق بيئة في الحياة الدنيا تعبد الله فيها لتفوز بالفوز المبين وهو جنة الله. وليس لخلق نموذج في الحياة بدون أي أخطاء. إن من يقوم على تطبيق الشريعة هم أناس يصيبون ويخطئون ويُرَد عليهم اجتهادهم ما لم يأتي بإجتهاد آخر يهدم شيئاً من الشريعة.
إن معركة الحق والباطل لا تقوم على أساس مشجعين ولكن تقوم بالحجة والتربية، حجة أن الله أمر بالحكم بما أنزل على من يدعي غير ذلك وتربية جيل يدافع عن عقائد دينه.. أما أن توضع عقيدة من عقائد الدين محل اختيار فهذا أكبر دليل أنه يوجد خلل في السبل التي نسلكها لرضى الله، إن رضى الله لن يأتي بأي سبيل مهما كان بل يأتي بكل سبيل لا يخالف رضى الله.
وقد تتعلثم كلماتي لإيضاح فكرتي.. لكن أترك لكم بعض السطور التي لم أرى أصدق منها ولا أوقع في توضيح الخلل الذي تسلكه بعض القوى الإسلامية.. والله المستعان.
إن قضية عبادة الله وحده بلا شريك، وهى قضية لا إله إلا الله، معناها أن يكون الله هو المعبود فى الاعتقاد، وهو المعبود فى الشعائر التعبدية، وهو المشرع، وهو مقرر القيم والمعايير، وهو واضع منهج الحياة للناس.. وهى قضية إلزام لا خيار فيها للمسلم مادام مقراً بالإسلام، بل هى قضية إلزام لكل من نطق بلسانه لا إله إلا الله، ولو كان فى دخيلة قلبه منافقاً كارهاً للإسلام، فإنه إن أعرض عن شريعة الله، فإنه يؤخذ بإقراره اللسانى، ثم يعتبر مرتداً عن الإسلام (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون)(النور: 47-48) (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(النساء:65)وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية، فأول ما نفعله هو تحويل هذا الإلزام الربانى إلى قضية يستفتى فيها النسا، وتوخذ عليها الأصوات بالموافقة أو الرفقض، مع إتاحة الفرصة لمن شاء أن يقول: إنكم أقلية، والأقلية لا يجوز لها أن تفرض رأيها على الأغلبية .. وإذن فهى مسألة رأى، وليست مسألة إلزام، مسألة تنتظر أن يصل عدد أصوات الموافقين عليها مبلغاً حتى تتقرر. وبصرف النظر عما فعلته الجاهلية فى الجزائر، حين وصلت الأصوات إلى المبلغ المطلوب – وهو درس ينبغى ألا يغفل عن دلالته أحد ممن ينادون باتباع هذا الطريق – فإن القضية يجب أن تتحدد على أساس آخر مختلف .. إن تحكيم الشريعة إلزام ربانى، لا علاقة له بعدد الأصوات، ولا يخير الناس بشأنه، هل يقبلونه أم يرفضونه، لأنهم لا يملكون أن يرفضوه ثم يظلوا مسلمين!وفرق بين أن تكون إقامة الإسلام فى الأرض متوقفة – بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى – على وجود قاعدة مؤمنة ذات حجم معين، تملك تحقيق هذا الإلزام الربانى فى عالم الواقع، وبين أن يكون الإلزام ذاته موضع نظر! وموضع استفتاء! سواء استطعنا تحقيقه فى عالم الواقع، أم لم نستطع لضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، كما كان حال المسلمين فى مكة.. ويجب أن تقدمه الدعوة للناس على هذا الأساس: أنه إلزام ربانى، وأن الناكل عنه مرتد فى حكم الله، وأن جميع الناس مطالبون بتحقيقه، حكاماً ومحكومين، سواء وجدت هيئة أو جماعة تطالب به أم لم توجد؛ لأنه ليس متوقفاً على مطالبة أحد من البشر، بعد أن طلبه رب العالمين من عباده بصيغة الأمر الملزم.وهذا المعنى يختفى تماماً فى حس الناس – أو فى القليل يفقد شحنته الفاعلة – حين ندخل فى لعبة الديمقراطية، التى تقرر من حيث المبدأ أنه لا إلزام لشىء إلا ما تقرره غالبية الأصوات.والخسارة الثانية التى نقع فيها حين ندخل فى لعبة الديمقراطية، هى تمييع قضية الشرعية، فالشرعية فى الديمقراطية هى لمن يأخذ أغلبية الأصوات، وهذا ليس هو المعيار الربانى؛ إنما المعيار الربانى – كما ذكرنا فى فصل سابق – هو تحكيم شريعة الله ، ومن أعرض عن تحكيم شريعة الله فلا شرعية له فى دين الله، ولو حصل على كل الأصوات لا غالبيتها فحسب، وهنا مفرق طريق حاد بين الإسلام وبين الديمقراطية.وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية فلابد أن نقر بشرعية من يأخذ غالبية الأصوات، ولو كان لا يحكم شريعة الله، لأن هذا هو قانون اللعبة، والذى لا نملك مخالفته، وعندئذ نقع فى محظور عقدى، وهو إعطاء الشرعية لأمر قال الله عنه إنه كفر، وهو التشريع بغير ما أنزل الله.ومهما قلنا فى سرنا وعلننا: إننا لا نوافق على التشريع بغير ما أنزل الله، فإنه يلزمنا أن نخضع لقانون اللعبة، مادمنا قد ارتضينا أن نلعبها، بل طالبنا فى كثير من الأحايين أن يسمح لنا باللعب فيها، واحتججنا حينما حرمنا من هذا الحق.ولم يفت أعداءنا أن يستغلوا وقوعنا فى ورطة الديمقراطية ليحرجونا، ويشتدوا فى إحراجنا، فقالوا لنا: ما موقفكم إذا دخلتم الانتخابات ولم تنجحوا، ونجح غيركم ممن لا يحكم الشريعة؟ فقلنا – ويا للعجب- : نحترم رأى الأمة!! فسألونا: إذا كنتم فى الحكم ثم رغبت الأمة عنكم، وأعطت الأصوات لغيركم، فقلنا – وياللعجب: - نخضع لقرار الأمة! أولو كان قرار الأمة مناقضاً لما قرره الله؟!أى تمييع لقضية لا إله إلا الله وقضية الشرعية أشد من ذلك؟ومع ذلك فما دمنا قد دخلنا اللعبة فلا مناص لنا من أن نقبل قانونها، لأن هذا هو مقتضى المنطق . إنما يحق لنا أن نرفض القانون حين لا نشارك فى اللعبة أصلاً، فنكون منطقيين مع أنفسنا ومع الناس حين نقول لهم : إننا لم نشارك فى اللعبة الآن قانونها مخالف لما قرره الله وألزم به عباده..